رصد – نبض السودان
يعتبر فيلم “وداعاً جوليا” لمؤلفه ومخرجه محمد كردفاني والذي تدور أحداثه في الخرطوم خلال السنوات الست التي سبقت انفصال جنوب السودان عام 2011، تمثيلاً درامياً عن الاضطرابات الطبقية والعرقية والدينية التي تعصف بالدولة المضطربة.
وبموازاة ذلك فإن الفيلم الذي فاز أمس بجائزتين منفصلتين في مهرجاني الأقصر للسينما الإفريقية بمصر ومهرجان بغداد السينمائي الدولي، يعالج الأخلاقيات الاجتماعية والثقافية والنفسية، والعواقب المتزايدة الاتساع والعمق على المواطن السوداني بحيث لا يطغى السياسي أبدًا على الشخصي، بل على العكس فإنه يسلط الضوء على قدرة الصدوع التي تقسم الأمة على اختراق قلب الإنسان المنقسم على نفسه.
منى (إيمان يوسف) مسلمة ثرية من شمال السودان تخلت عن مسيرتها الغنائية بناءً على طلب زوجها أكرم (نزار جمعة)، وتعيش في منزل رسمت ملامحه حماتها، بينما جوليا (سيران رياك) جنوبية مسيحية فقيرة تعيش مع زوجها سانتينو (باولينو فيكتور بول) وابنها دانيال (يجسده كل من لويس دانييل دينغ وستيفانوس جيمس بيتر في أعمار مختلفة) في كوخ مؤقت، بعد طردهم من منزلهم بشكل غير عادل.
تتقاطع مصائر كل من منى وجوليا، عندما تصدم منى بسيارتها دانيال عن طريق الخطأ عندما كانت أمه تبيع الخبز على جانب الطريق في حيِّهما المهمل.
وبعد التأكد من أن الصبي ليس مصابًا بجروح خطيرة، تغادر منى الملوَّثة أخلاقياً بعنصرية زوجها تجاه “العبيد” القادمين من الجنوب. سانتينو الغاضب من الحادث يطارد منى بدراجته النارية، فتتصل بزوجها وتخبره بأنها مطاردة دون أن تفسر له السبب.
وعندما توقف الأب خلف منزلها، كان أكرم ينتظر وبيده بندقيته، وبعد ملاسنات بينهما أطلق عليه الرصاص فقتله، أحد الجيران يخبئ الدراجة النارية، وتقوم الشرطة بشطب الحادث، ولم تجد حتى أنه من المناسب إبلاغ عائلة سانتينو بوفاته، بحيث لم يبق ما يربط منى بالرجل المفقود سوى صوت ضميرها.
هذا الصوت يدفعها من دون علم أكرم الذي تكذب عليه باستمرار إلى رشوة ضابط شرطة للعثور على عائلة الرجل القتيل. وهذه الطريقة التي تجعلها تعرض على جوليا وظيفة كمدبرة لمنزلها، وهو ما تقبله جوليا خاصةً أنها بلا مأوى، وتقوم الآن بتربية طفلها الصغير في غياب والده المفقود.
ورغم أن الحكاية هنا مهيأة لميلودراما من التوتر المتصاعد الذي قد يهدد بانهيار بيت منى وأكرم الهش لاسيما أنه مبني على الخداع والكذب وسطوة الأفكار المتطرفة، لكن لدى كردفاني قصة أكثر إنسانية ليرويها، فشخصيتاه النسائيتان لم تكونا مجرد نماذج أولية داخل حبكة متوترة بحكم الانقسامات بين الأغنياء والفقراء، والمسلمين والمسيحيين، والشمال والجنوب، وذوي البشرة الفاتحة والداكنة، بل أصبحت منى وجوليا صديقتين ترعيان تعليم دانيال.
أكرم أيضاً ينبه لتدريبه المهني، وعلى الرغم من تطهير يديه في البداية كلما لمسه إلا أنه حل بطريقة ما محل الأب الذي قتله.
هنا تشجع جوليا صديقتها منى على تحدي قوانين زوجها بمنعها من ممارسة الغناء مرة أخرى. ويستغل المخرج هذه الحيثية لربط المجتمع السوداني بوجدانيات غنائية جامعة، سواءً أكانت من التراث أو من أغنيات وردة، في إحالة إلى أنه مهما بلغ الاضطراب في المجتمع فإن الثقافة والفن قادران على تخفيف التوتر.
تصوير بيير دي فيلييه الدافئ والغني باللقطات القريبة تجعلنا نتماثل مع الشخصيات، ونتعاطف مع جوليا التي على الرغم من فقرها ووجودها على الطرف الحاد من العنصرية، والتمييز الجنسي، والتعصب العرقي إلا أنها تتمتع منذ البداية بروح أكثر حرية، بينما منى هي الأكثر حاجة للتغيير، والتمرد.
وعندما أهدى أكرم منى طائر كناري في قفص فإنها تطلقه رغم احتجاج زوجها على أنه لن يعيش بمفرده. ربما يكون هذا صحيحًا بالنسبة لجميع المخلوقات التي اعتادت أن تكون مسجونة في أقفاص. لكن على الأقل، يمكنهم الغناء بحرية، وبالنسبة لمنى، وللسودان المنقسم، فإن الأغنية تستحق المخاطرة.
التعليقات مغلقة.